حدثان هامان شهدهما عالمنا العربي – من ضمن الكثير والمتتابع مما يشهده وأسرع من إدراكنا– امتد تأثيرهما أفقياً لما يفوق حدودهما الجغرافية –كالعادة- ، كان الأول تفجير الأشرفية في بيروت، والذي راح "ضمن" ضحاياه اللواء وسام الحسن رئيس مركز المعلومات في الأمن الداخلي اللبناني، و الحدث الثاني هو زيارة أمير قطر وحرمه ووفدهما المرافق إلى قطاع غزة المحتل/المحاصر.
لايمكن تجاهل أهمية الحدثين، وإن كانت بيروت قد شهدت إنفجارات وإغتيالات سابقة، وكذا القطاع الغزي الذي كُسر حصاره سابقاً، ولكن...
غزة :
لزيارة أمير قطر ووفده وحرمه لقطاع غزة وما أثارته الزيارة من إستقطاب بين مهلل ومشيطن لها، أهمية خاصة. فالزيارة قوبلت برفض شديد من تيارات فتح و اليسار الفلسطيني وصلت حدود القول "إذا كان الزائر سليم النوايا كان الأجدر به أن يبدأ بالقدس (!!!) ورام الله وثم غزة"، وهذا الرفض الحاد يجعل مجرد التساؤل عن مبدأه تساؤلاً مشروعاً إن لم يكن واجباً، فالأمير القطري يمثل أولاً أعلى المستويات الديبلوماسية لكسر الحصار على القطاع، وبالتالي فلذلك تأثيره على العملية السياسية، كما أن تلك الزيارة صاحبها إفتتاح مشاريع إعمار غزة المنكوبة بتعبير أكثر المقاييس الحضارية والمدنية والإعمارية والإنسانية، بلغت قيمة تلك المشاريع حوالي الـ 400 مليون دولار، ألم يكن الأجدر بمن يرفض تلك الزيارة أن يسأل نفسه قبلاً ماذا قدم هو للقطاع غير الإتجار به؟ وهل أتت عليه سياسات "أكبر صحن مسخّن" و "أكبر صحن كنافة نابلسية" ومقاومة "الإيه تي إم" بيد عرّابها رجل البنك الدولي في فلسطين، الذي خرجت عليه مظاهرات أخيرة ترفض سياساته "الإعمارية"، بما هو أكثر من مستشفيات "الأمير حمد" ومساكن "الأمير حمد" وغيرها؟
أما عن اليسار الفلسطيني، فلايمكن الحديث عن موقفهم الرافض وهو أول من قبل بأوسلو وسياساتها وسياسيوها في إنقلاب واضح على أولى مبادئ اليسار. بما يضمن تشريعاً يسارياً للعيش "تحت البسطار الإسرائيلي" وقانونه –بحسب مصطلحات السلطة- ، التشريع الأقرب لتبرير "اللي منه أحسن منه" فأعطتهم تل أبيب "مظاهر" دولة دون وطن من مكتب وسيارات أمن وسجون وتوكيل عام. وتلك في حد ذاتها جريمة في حق فلسطين، وبالذات بعد تصريح إسرائيل أن عدد المطلوبين لها في الضفة الغربية يساوي صفراً...(تلك شهادة عار واضحة وصريحة تُخرس من يحملها).
ذاك تساؤل مشروع ، ولكن ماذا بعد؟
فالأمر لا يجب أن يتوقف عند هذا الحد، ولعل أهم ما في الأمر والزيارة ، هو ما يتعلق بالإدراك الفلسطيني (والعربي) للوضع الغزّي، وبالتالي للوضع الفلسطيني والعربي عموماً، فمجرد التساؤل السابق لا يجعل منا قابلين ولا مصادقين على ماحدث في القطاع، من مراسم بيع و "زفاف" على البترودولار الخليجي، فمن يرى خطاب رئيس الوزراء الغزّي و تهليله لـ"عروبة الأمير وحسّه المقاوم" لايمكن أن يمنع نفسه عن تساؤل مشروع آخر -بل وواجب عروبي ومقاوم أيضاً..لمَّ هو فقط؟!!- : كيف تستوي المقاومة والعروبة وعلاقات تطبيع على أعلى مستوى عربي، تصل حدود "التنفس الصناعي" الإقتصادي لرؤوس الأموال الإسرائيلية التي تتضرر من حركات المقاطعة الشعبية لمنتجاتها وخدماتها؟ كيف تستوي تلك العروبة والمقاومة ومشاريع البترودولار القطري في الداخل المحتل والتي ليس أقلها بناء المستوطنات؟ إن مجرد التعامي عن تلك الإزدواجية في الخطاب الحمساوي (المقاوم) في غزة يقفز فوق مجموعة من الحقائق:
1. الدور القطري في الحراك الثوري العربي (والمعيّة لاتعني الثورية)، والذي يمثل دعم القطاع الغزّي المقاوم (غزة التي أثبتت للتاريخ المعاصر وسطرت له أعظم نماذج المقاومة على تاريخها، والتي تعد حرب 2008-2009 نموذجاً لإنتصارها في وجه إحتلال ودول عالمية وعربية وقفت معه ضدها) ورقة لعب ثانية، في ظل تكشف عوار ورقة اللعب الأولى وهي تيارات الإسلام السياسي عموماً والإخواني خصوصاً المدعوم قطرياً في الدول التي مرت بثورات و إنتفاضات، إذ يمثل الدعم القطري حينها مساً بأكثر محركات العاطفة لدى الشعب العربي وتوظيف ذلك لصالح تيار الإسلام السياسي، وهذا يفسر في نظرنا توقيت الزيارة، و"الموافقة" التي أصدرها (الرئيس) مرسي بإدخال المواد اللازمة لإعمار غزة بعد الزيارة القطرية بأيام (مع العلم أن سياسة هدم الأنفاق لاتزال قائمة، وسياسة غلق المعبر قبل الزيارة المباركة كانت قائمة). أكان لزاماً على الأمير وحاشيته أن يزوروا غزة ليعي "مرسي" أنها محاصرة؟ أم أن غزة الآن غير!
والدور القطري في الحراك الثوري هو دور يختلف بإختلاف الإقليم الثوري (المنتفض)، فهي لاعب أساس في الحراك في مصر و تونس، ولكنها لاعب مشارك في سوريا، ولاعب إحتياط في اليمن والبحرين.
2. عطفاً على النقطة السابقة ، وامتداداً لها يمكن تفسير الكثير من لامنطقية خطاب رئيس الوزراء الحمساوي إسماعيل هنية، إذ يرى أن ذلك الفتح الأميري لم يكن ليتحقق لولا الثورة المصرية. وهو كلام حق يراد به باطل، إذ يتناسى هنية أن رئيس "مصر مابعد الثورة" – إن صحت التسمية، ولا أظن- اختلف عمن سبقه من كنز إستراتيجي بأن سمى نفسه صديقاً وفياً لبيريز، وأرسل سفيراً لمصر في الكيان الصهيوني تم تعميده في القدس، ولا يمكن فصل ذلك "الوفاء" عن إستغلال تيارات الإسلام السياسي –وليس الإخوان فقط، و إن كانوا أبرزها- كل الفرص المتاحة لإرسال رسائل "الوفاء" و"التغزل" للكيان الإسرائيلي وأمريكا في أهم منابر ودبابات التفكير الصهيوأمريكية ، ليس التمسك بـ"كامب ديفيد" حدود "عدم المساس" إلا أول الغيث الإسلامي.
ألم يكن فيتوريو أريغوني ونعوم تشومسكي وأهل غزة قبلاً، أولى بتلك الدكتوراه الفخرية، من أمير قطر؟ ألم تكن علاقتهما واضحة مع الإحتلال و بالتالي المقاومة، وليست بإزدواجية البترودولار أو بالأصح خطبه الإعلامية؟
إذا أبقينا تلك النقاط الميدانية في خلفية المشهد الغّزي نجد أن المقاومة تقع في محظور الإتجار بها، حيث إن كان فصيل الضفة يحول منجزاته لنوع من أنواع المقاومة ، فضل تسميتها عبثياً باسم "المقاومة السلمية" وتلك وسيلة لغاية، فما فعله الفصيل الغزّي أنه يجعلها "مقاومة تجارية" وفرصة لتبديل "راعي رسمي" بالمنطق التجاري، تنتهي بتطابق شديد لمنتج فتح من "اللي منه أحسن منه" وهو دولة دون وطن.
كل ذلك على حساب الإتجار بمقاومة القطاع الغزي ، و صموده المشرف.
بيروت :
ليس إنفجار بيروت الأخير هو الأول، فقد شهدت بيروت العديد من عمليات الإغتيال السياسي بين فرقاء العملية السياسية (بحسب تسمية الإعلامية اللبنانية)، وبعيدا عن منطق الإغتيال السياسي وقبوله أو رفضه، ولكن يجدر بنا التوقف أمام مشهدين إثنين: تشييع السيد وسام الحسن، وتشييع السيدة جورجيت ساركسيان، الذين قتلا بنفس العبوة الناسفة، في بيروت نفسها، ويبد واحدة، وزارهما ملاك الموت نفسه وصعدا نفس السلم لذات السماء، ولكن يظل بازار الإتجار بالموت في بلادنا مختلفاً، وهذا ما يفضحه التصدير الإعلامي لمشهدي التشييع.
فالسيد وسام الحسن صار بطلاً ووصلت بطولته لمن لا يعرفه حدود الإتجار بدم عربي آخر، وهو الدم السوري بعد اللبناني، إذ تمت تسمية إحدى كتائب "الجيش (!) السوري(!) الحر(!)" بإسمه إمعاناً في تأكيد "الوطن" الذي يسعى إليه هؤلاء على خطى الوسام، و أصبح الناس على الشبكات الإجتماعية –وهي مرآة جزئية للخطاب الدائر في المجتمع- تقدم الفقيد على أنه فقيد الحرية و الوطن معاً. ولكن أي حرية ووطن فذلك لا يعد مهماً، طالما أن الإعلام صادق على التسمية. أوليست السيدة جورجيت التي كانت تعمل في أحد البنوك في منطقة الأشرفية حيث حدث التفجير، أولى بمفهوم الوطن، تلك الأم التي تعيل ثلاثة ابناء؟ أوليست الأم في نهاية هي الوطن، وتلك شهيدة وطن، جار عليها وقتلها بإسم الوطن أيضاً لصالح الوطن؟ وطن يقتل أمه لا يعول عليه ... ذلك السائرون إليه.
قراءة بسيطة لتاريخ وسام الحسن، تجعلنا نتساءل كيف يستوي الوطن ووسام الحسن شهيدين (وشاهدين) معاً، وليس الوطن وجورجيت شهيدين (وشاهدين) معاً؟ كيف يستوي إعمار غزة الوطن، بالإتجار بها معاً، لتصطف في النهاية بجانب منجزات الأمير حمد كتفاً بكتف؟ كيف يستوي وسام الحسن وجورجيت شهداء نفس الوطن معاً؟
إعمار غزة واجب على كل منا، أما الإتجار بها –وبمقاومتها- فلا، سواءاً عن اليمين أو اليسار، فغزة التي قاومت ورفضت "البسطار" وسياسييه، يجب أن ترفض العباءة ومهللوها، ولأن غزة تشرّف من يأتيها يجب أن نعلم ألا ثمن لذلك الشرف إلا المقاومة، لذا فهو ليس للبيع.
إن تلك المشاهد على الساحة العربية تستدعي منا عقلاً تفكيكياً لدى تناولها بعيداً عن الكلية و"المعيّة" التي تقيد إنتاجية الفعل السياسي والمقاربة. فكما أنه ليس من الممانعة في شيء أن تقتل شعبك ، فأيضاً ليس من المقاومة في شيء أن تبيعه، وإن كان ليس من الثورة في شيء "الوفاء للإسرائيلي" فليس منها أيضاً التعامي عن ذلك. ما أحوجنا لأن نسمي الأمور بمسمياتها بعيداً عن التذرع باليمين و اليسار، وبالذات أن الوطن والمقاومة وفلسطين والحرية والإحتلال، فتلك قيمٌ لا تخضع ولا تعَّرف إلا بذاتها فقط، ويظل "اليمين" و اليسار" قيداً علينا لا عليهم معاً.